Texto del manifiesto

بيان ضد موت الروح

خابيير رويث بورتييّا وآلبارو موتيس

 

 

يتناول هذا البيان الذي حرره الكاتب والناشر الإسباني خابيير رويث بورتييّا وأصدره بمعية الشاعر والروائي الكولومبي آلبارو موتيس (الحائز على جائزة ثيربانتيس الأخيرة في إسبانيا وجائزة نوستادت في الولايات المتحدة)، أزمة القيم الروحية التي ابتلي بها العالم الغربي بشكل أو آخر، في المرحلة الراهنة.

إننا نتساءل إلى أي حد وبأية كيفية يعاني العالم العربي من الأزمة المذكورة –الأزمة بين "الحداثة" و"الروحانية"-، هذا العالم الذي ترك لنا درسا وذكرى جميلة حول روحانيته العالية، المفتوحة والمتعددة: ذكرى قرطبة، مدينة المعرفة والثقافة المشعة. لسنا نحن طبعا المخولين للإجابة على هذا السؤال. إنها صلاحية المثقفين والمهتمين العرب، ونرجو أن تساهم الصرخة اليائسة التي يطلقها هذا البيان في مدّ الجسور الضرورية من الحوار والتواصل بين حضارتين ما زال الإرث التاريخي يمنع التفاهم بينهما.

                                                               خابيير رويث بورتييا

 

 

إننا، الموقعين على هذا البيان، لا يدفعنا الحرص الذي يطبع عادة موقعي التصريحات والاحتجاجات والمطالبات. إن هذا البيان لا يسعى إلى التنديد بسياسات حكومية معينة ولا شجب توجهات اقتصادية محددة ولا الاحتجاج ضد ممارسات اجتماعية بذاتها. إنه يقوم ضد شيء أكثر عمومية، وأكثر عمقا… ومن ثم أكثر انتشارا: ضد الفقدان العميق للمعنى الذي ينقُضُ ظهر المجتمعات المعاصرة.

 

لا ننكر أنه مازال ثمة شيء يشبه المعنى؛ شيء يبرر حياة إنسان اليوم ويملأها ولو بدا لنا الأمر غريبا. لذلك، وتحرّيّاً للدقة، فإن بياننا هذا يقوم ضد حبس المعنى في وظيفة المحافظة على الحياة المادية للناس وتحسينها (وقد وصلت عندنا إلى درجة لا يضاهيها أي مجتمع آخر).

 

العمل والإنتاج والاستهلاك: هذا هو كل الأفق الذي يضفي معنى على وجود إنسان اليوم برجاله ونساءه. وللوقوف على هذا يكفي الاطلاع على الجرائد والاستماع لبرامج الراديو ومشاهدة التلفزيون: إنه أفق وجودي (إذا صحّت التسمية) وحيد يهيمن على كل ما تعبر عنه وسائل الإعلام الموجهة للعوام. ينادي هذا الأفق، بدعم العوام وتشجيعهم الحماسي، بأن الحياة ليس لها سوى معنى وحيدا: الزيادة في صنع الأشياء والمنتجات ووسائل التسلية إلى أقصى الحدود الممكنة وذلك من أجل راحتنا المادية.

الإنتاج والاستهلاك: إنهما كلمتي المرور السحريتين. ثم اللهو: أنشطة التسلية (كم هو صائب الاصطلاح الشائع: "أنشطة الوقت الميت"!) التي تغرق بها الصناعة الثقافية ووسائل الإعلام السوق بهدف ملء ما يعرف، دون وجه حق، ب"الحياة الروحية"؛ وبصورة أكثر تحديدا بهدف ملء ذلك الفراغ والافتقار للهمّ والفعل الذي يعبر عنه بدقة متناهية اصطلاح "الوقت الميت".

في هذا تنحصر حياة إنسان اليوم ومعناه، حياة الإنسان "الفزيولوجي" الذي يجد أكبر تحقيق لنفسه في إشباع حاجاته المتصلة بصيانة ذاته وتغذيتها. لا مناص من الاعتراف، بطبيعة الحال، بأن هذه المثابرة والمجهود المبذول–وبالخصوص في تحسين ظروف الصحة وزيادة العمر الذي وصل فعلا إلى ضعف ما كان عليه في ظرف قرن من الزمان-، قد أفضيا إلى نجاح مدهش فعلا. وكذلك هو التقدم الذي حققه العلم في فهم النواميس المتحكمة في الظواهر الفيزيائية السارية في الكون عموما وفي الأرض خصوصا. ونحن لا نستنكر هذا التقدم، بل لا يسعنا إلا أن نحيّيه بابتهاج صادق وعميق.

إن هذا الابتهاج بالضبط هو الذي يدفعنا إلى التعبير عن اندهاشنا وقلقنا أمام التناقض المتمثل فيما يلي: ففي الوقت الذي أتاحت هذه الإنجازات تخفيف المعاناة من الأمراض ومن شقاء العمل، وتوفير إمكانية التعلم والمعرفة (بقدر ومساواة لا مثيل لهما): في وقت مطبوع بمثل هذه المكاسب الإيجابية، تقتصر كل الآفاق والآمال الإنسانية على زيادة الرفاهية مما يؤدي إلى استفحال خطر موت الروح.

 

التهديد لا يحدق بالمكاسب المادية المدرَكَة، اللهم إلا إذا وقعت كارثة بيئية قاتلة؛ بل يحدق بحياة الروح. ومما يبرهن على ذلك، من بين براهين أخرى عديدة، الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن  استعمال لفظة "الروح" أصبح إشكاليا في حد ذاته. تعاظمت المادية وغمرت أكثر النوابض حميمية في عقولنا وقلوبنا، حتى أنه يكفي استعمال لفظة "الروح" بصورة إيجابية ومواجهة موجة المادية باسمها، حتى تُحمَّل اللفظة بمضامين دينية محتقَرة بل وتوصم بالباطنية.

لذلك نجد أنفسنا مجبرين على التحديد بأنه ليس الهمّ الديني هو الذي يحركنا، بغض النظر عما نعتقده حول العلاقة بين "ما هو روحي" و"ما هو إلهي".

ما يحركنا ليس هو القلق أمام موت الإله، لكن أمام موت الروح: أمام ضياع ذلك النفَس  الذي به يثبت الإنسان ذاته كإنسان وأنه ليس مجرد كيان عضوي. الهمّ الذي نعبر عنه هنا هو ذاك المتولد عن معاينة اندثار ذلك الحرص والطموح الكبير الذي يعطي للإنسان كينونة في هذا العالم وليس وجودا فقط؛ تلك الرغبة القوية التي يعبَّر بها عن السعادة والشقاء والابتهاج والقلق، والإثبات والتساؤل إزاء تلك المعجزة التي لا يمكن لأي عقل أن يعرّفها: معجزة الكينونة، معجزة أن يكون الإنسان والأشياء موجودين: أن يكون لهم معنى ومغزى.

من أجل ماذا نحيا ونموت: نحن بني الإنسان الذين طوّعنا الطبيعة…، أي العالم المادي؟ ما هو معنانا وما هو مشروعنا، وما هي رموزنا…، تلك القيم التي لا يمكن لأي إنسان أو مجموعة بشرية أن توجد دونها؟ ما هو مصيرنا وقدرنا؟ إذا كان هذا هو السؤال الذي يرسّخ قواعد كل حضارة ويعطيها معنى، فما يميّز حضارتنا هو جهل الإنسان لمثل هذا السؤال واستهانته به: إنه سؤال لا يتمّ طرحه حتّى؛ وإذا ما طرح، كان الردّ: "قدرنا هو الحرمان من أي قدر؛ الافتقار لأي قدر سوى هروبنا من الموت كل يوم".

الافتقار للقدر، والحرمان من مبدإ ضابط ومنظم، الحرمان من حقيقة تضمن خطواتنا وترشدها: مثل هذا الغياب –مثل هذا العدم- هو ما تحاول ملأه، دون شك، دوامة المنتجات والملاهي التي نتخم بها أنفسنا. من هنا تأتينا كل الشرور. ولكن من هنا أيضا تأتي –لو وعينا الأمر على نحو مختلف لقلنا: من هنا يمكن أن تأتي- كل قوتنا وعظمتنا: عظمة الرجال الأحرار؛ عظمة الرجال غير الخاضعين لأي مبدإ مطلق، ولأي حقيقة محددة سلفا؛ نبل وعظمة الرجال الذين ببحثون ويتساءلون ويطمحون: دون وجهة معينة ولا قدر محتوم. أحرار بمعنى متروكين ومهجورين. بلا مأوى ولا حماية. معرضين للموت.

إن وضع الخطوط الأولى للمنظور السابق لا يعني طبعا، حل أي شيء. فبعكس كل البيانات المتداولة، لا يزعم بياننا هذا أنه يحدد إجراءات أو يوصي بمبادرات أو يقترح حلولا معينة. لقد مر لحسن الحظ ذلك الزمن الذي كانت فيه مجموعة المثقفين تتخيل أنها، بعد أن تصوغ قلقها ومشروعها في كلام منمّق على ورقة بياضها في مثل بياض العالم الذي تريد إصلاحه، ستجعل هذا العالم يتبع الوجهة التي رسمته له. هذا هو حلم الفكر الثوري: ذلك الفكر الذي توصل –ولكن بالنتائج التي نعرفها جميعا- بعد أن نجح في وضع كلاليب السلطة في خدمة فكره، إلى تغيير العالم أثناء عقود قصيرة ورهيبة.

ليس العالم تلك الورقة البيضاء التي يتخيلها الثوريون. العالم كتاب مشوّق وأحيانا رهيب منسوج بالماضي، والأسرار والثخانة. لا نزعم نحن الموقعين على هذا البيان تسطير أي برنامج جديد للخلاص على الصفحة البيضاء. نتوق قبل كل شيء، وكم سيكون ذلك الإنجاز كبيرا لو تحقق، إلى حشد الأصوات التي تشعر بنفس القلق.

سيكون إنجازا كبيرا فعلا: إذ الغريب بل المثير، أن مثل هذا القلق لم يجد حتى اليوم أي قناة حقيقية للتعبير عن نفسه. وما يثير قلقنا أكثر مما يقلقنا موت الروح نفسه، حقيقة أن هذا الموت يجعل معاصرينا غارقين في لامبالاة قاتلة، باستثناء بعض الأصوات المعزولة.

 

لذلك، فأول هدف يطمح إليه هذا البيان هو معرفة إلى أي مدى يمكن لمثل هذه الأفكار أن تثير صدى سواءا كان صغيرا أو متوسطا أو (ربما) عاليا. فبالرغم من التشاؤم الذي يرزح على ظهر هذا البيان، ثمة أمل صغير ينبض في جوفه، أمل بأنه لا يمكن ألا ترتفع إلا بعض الأصوات المعزولة من حين لآخر لتقف في وجه الشعور الذي يطبع زمننا. وبقدر ما يبقى هذا الشعور غالبا، فمن الواضح أن هموما مثل التي عبرنا عنها هنا لا يمكن أن تصاغ إلا في شكل صرخة أو تنديد. هذا بديهي. ولكن، ليس من البديهي أن تغيب مثل هذه الصرخة حتى عن ذلك المزاج النقدي، المهاجم والهاتك للحجب، الذي كان من أكبر سمات الحداثة، في بداياتها على الأقل. لم يعد هناك أثر لذلك الموقف النقدي وكأن كل شيء صار كأفضل ما يكون في أفضل العوالم الممكنة: الأمر الوحيد الذي يثير الآن الاحتجاج هي المطالب البيئية (المشروعة لكن الحبيسة في أشد المادّيات تسطحا)، والتي علينا أن نضيف إليها البقايا الفاسدة للشيوعية، المادّية هي كذلك والمستهلكة، التي تبدو وكأنها لم تسمع بما ارتكب باسمها من جرائم لا تضاهيها سوى الجرائم التي ارتكبتها التوليتارية ذات المنحى المعاكس في الظاهر.

بزوال المزاج القلق والنقدي الذي كان فخرا للحداثة في البداية، وبتسليم زمننا إلى أيدي أصحاب الثروات والمال وحدهم –ذلك المال الذي أغرق أتباعهم كذلك-، لم يعد المكان إلا لإطلاق الصرخة والتعبير عن القلق. هذا ما يطمح إليه هذا البيان، الذي يتوق بالإضافة إلى إطلاق مثل هذه الصرخة، إلى فتح المجال أمام جدل عميق. ومن نافلة القول أن المسائل التي أثيرت بجلاء هنا والأخرى التي تنطوي عليها وهي كثيرة، لا يمكن أن تجد لها متسعا في حيز البيانات، الصغير عادة. لذلك، سنعتبر أن أهداف البيان قد تحققت كل التحقق، إذا ما تلا نشره جدل يشارك فيه كل من يشعر بأنه معني بالقلق الذي رسمنا خطوطه العامة هنا.

سنكتفي فقط بالإشارة إلى بعض النقاط التي يمكن أن يدور الجدل حولها. إذا كان "موضوع عصرنا"، بتعبير أورتيغا إي غاسيت، ليس سوى ذلك الموضوع المركب من هذا التناقض العميق: ضرورة منح قدر للناس المحرومين من القدر والذين سيظلون كذلك؛ إذا كان مطلبنا هو إعطاء معنى لعالم يكتشف –ولو على نحو مغطى ومشوّه- لامعنى العالم؛ إذا كان هذا، في نهاية المطاف، هو "موضوعنا"، فالسؤال الذي يطرح نفسه عندئذ هو: عبر أية قنوات، وعبر أية وسائل، ومحتوى، ورموز، ومشاريع ... يمكن أن ينفتح إضفاء المعنى هذا؟

فالمفارقة السابقة –امتلاك قدر وعدم امتلاكه؛ إثبات معنى مُشيّد فوق لامعنى العالم نفسه-؛ كل هذا التوازن على شفا الهاوية المحفوف بالأخطار والباعث على الحماس في نفس الآن، كل هذا الثبات على "الحدود" المتحركة التي تفصل بين الأرض الصلبة وبين الفراغ: ألا يشبه هذا كله الهاوية، ألا يشبه التناقض الذي يطبع الفن نفسه: الفن الحقيقي، الذي ليست له أية علاقة مهما تضاءلت بالتسلية التي تسوّق اليوم باسمه؟ كان نيتشه يقول: "إننا نملك الفن حتى لا نموت تحت ثقل الحقيقة"، أي العقلانية. ربما كان الأمر كذلك، ربما كان الفن هو ما يخلص العالم من بلادته وخموله. من أجل ذلك، ينبغي للخيال الفني أن يستعيد  زخما وقوة جديدين. لكن ذلك لا يكفي. ينبغي للفن كذلك أن يستعيد المكانة التي تناسبه في العالم بعد أن يتخلص من الدور المسند له كمحض أداة للتسلية والزينة الجمالية؛ سيثبت للجميع أن دوره هو التعبير عن الحقيقة، وتلك هي طبيعته، وأن لا صلة له بالتأمل السطحي والبسيط للمتفرج الخامل.

 

حسنا، هل هذا ممكن في هذا العالم الذي صارت فيه السماجة نفسها (سماجة الهندسة المعمارية والزخرفة وسماجة الملابس والموسيقى…) وليس فقط الابتذال والتفاهة، محورا من محاوره الأساسية؟ هل هو ممكن هذا الحضور الحي للفن في عالم طغى عليه وجدان العوامّ وترحيبهم؟ هل ممكن أن يحل الفن في قلب العالم  دون أن تعود إلى الحياة –لكن كيف؟- الثقافة الشعبية الأصيلة والزاخرة بالحياة؟ تلك الثقافة قد بادت اليوم بعد قرون طويلة من الحياة، ضُحّي بها في هيكل المساواة التي تكيل الكل بنفس المكيال، والتي تفرض على الجميع الخضوع للثقافة الوحيدة –ثقافة المثقفين- التي يعتبرها مجتمعنا ممكنة وشرعية. أليست إذن مسألة المساواة نفسها –أي شروطها وإمكانياتها ونتائجها- هي التي تصبح مطروحة، والتي لا بدّ من الإجابة عليها؟

لنضع سؤالا أخيرا، وقد يكون السؤال الحاسم. إن غياب الروح المندد به هنا شديد الارتباط بما يمكن تسميته بخيبة أمل عالمٍ تخلّص من سحره: عالم قضى على القوى الغيبية التي ساست حياة الناس في الأزمنة الأولى وأضفت المعاني على الأشياء. لا داعي لأن نلح هنا على ضرورة التخلص من السحر حتى نفهم الظواهر الفزيائية التي تتحكم في الكون. كان لا بد لذلك من سلاح العقل الذي أثبت فتوحاته (النظرية والعملية) بشكل لا يردّ. لكن، أليس هذا السلاح والفتوحات نفسها هي التي تفسد كل شيء حين تتحوّل عن ما هو مادي لتحاول التحكم في ما هو روحي؟ أليس هو سلطان العقل الذي يقلص كل شيء إلى تسلسل ميكانيكي من الأسباب والنتائج، والوظائف والأدوار، عندما يحاول مجابهة معنى العالم، وعندما يحاول مواجهة مغزى الوجود؟ ألا يكمن لبّ المشكلة في هذه السلطة المفرطة التي نسبها الإنسان لنفسه حين ادعى أنه ليس فقط "سيد ورب الطبيعة"، بل سيد ورب المعنى كذلك؟ وبالفعل، فبفضل وجود الإنسان ينشأ ويُدبّر هذا "الشيء" الأكثر إعجازا بين كل الأشياء، الذي نسميه معنى. ولكن لا يتأتى من ذلك بأي حال من الأحوال أن يملك الإنسان المعنى، وأن يكون سيده وربه، فيهيمن ويتحكم في سر يتجاوزه وسيتجاوزه دائما.

هذا التجاوز ليس في العمق شيئا آخر سوى ما عُبّر عنه باسم "الله" لقرون طويلة. ألا يعني إذن النظر إلى الأشياء من هذه الزاوية أننا نطرح –بأسس جديدة جذريا-  القضية التي ظنت الحداثة أنها تستطيع أن تتجنبها إلى الأبد: قضية الله؟

لندع السؤال التالي مطروحا: مسألة إله غريب (ولعلنا نصيب حين نقول الإله وليس الله)، مسألة إله يتوقّف على الإنسان وخياله، نظرا لافتقاده لواقعه الخاص –فلا هو ينتمي لعالم الطبيعة ولا لعالم الغيب-، كما يتوقفان هما عليه. لأي عالم، لأي نسق من الواقع الطبيعي ينتمي إله من هذا القبيل؟ لا يمكنه طبعا أن ينتمي لذلك النسق الغيبي الذي تم نكران حقيقته المادية… حتى من طرف قداسة البابا الذي قال في يوليوز 1999 –لكن لا أحد تنبّه لذلك- بأن "السماء <…> ليست مكانا مجرّدا ولا مكانا ماديا بين السحاب، وإنما علاقة حية وشخصية مع الله". أين محلّ الإله، إذا كان لا يوافقه أي مكان مادي، وكان مجرد "علاقة"؟ أين محل الإله، إذا لم يكن في ذلك المكان الأكثر إعجازا وعجبا الذي يبدعه الخيال؟

إن طرح مسألة الإله ليس في نهاية المطاف، سوى طرح مسألة الخيال، أن نتساءل عن طبيعته: طبيعة تلك القوة التي تخلق من العدم المعاني والمدلولات، والاعتقادات والانفعالات، والمؤسسات والرموز…؛ تلك القوة التي قد يتوقف عليها كل شيء والتي يزعم الإنسان الحديث بأنه سيدها وربها كذلك. هذا ما يعتقده هذا الإنسان الذي يتعجب هازئا حين ينظر بابتسامة متعجرفة إلى إشارات ورموز الأمس واليوم ويقول: "زِهْ، إنها مجرد خيال!"، محض أكاذيب إذن.